:P
الشرافة و الهجرة
كان لوحي المرهف من خشب العشر الخفيف، حفظته و عرضته على شيخي ذات صباح ثم ذهبت فمحوته و طليته بجيرة بيضاء لبنية صافية، و جف كأنه ورقة صقيله - وضعت اللوح مبتهجاً بين يدي شيخ الفقراء - كان طالب القرآن كلما أتم حفظ جزء من الكتاب المبين شرَّف شيخُ الفقراء لوحه، تحية للطالب على حفظه و تبريكا، و جائزة معنوية ذات قدر و أثر في أولئك الملأ الطيبين، يتقربون فيها إلى الله سبحانه بالكرامة - و الشرافة و التشريف كانت بشارة و فألا حسناً و شارة على استقامة الطالب و التزامه.
الشيخ الصالح يجلس مطمئناً على فروته، يمسك اللوح و في يده قلم من القصب أجاد بريه، و يرسم بيد طيعة ثابتة خطوطاً بالعَمار الأسود الناعم على حواشي اللوح طولاً و عرضاً حتى يستقيم من كل الخطوط إطار مشدود، ثم يرسم إطاراً داخلياً، و يقسم المساحة بين الإطارين إلى مربعات متساويات، و يصل زوايا المربعات بخطوط متقاطعات فتصير مثلثات ثم يرسم قبة هريمة أو مدورة فوق سقف الإطار الأعلى، و يضع فيها دوائر أو مربعات، يملأ الشيخ العابد الفنان هذه المثلثات نسقاً متتالياً بالألوان من الأخضر اليانع، و الأحمر الصارخ، و الأصفر الفاقع يسر الناظرين - و الألوان يعين بعضها بعضاً على الانسجام و الإشراق. و يحيط هذا الإطار الشفاف المزخرف برقعة بيضاء في اللوح نقية كالمرآة، يخط الشيخ فيها بالثلث آيات محكمات، و خط الشيخ ثلثاً و نسخاً واضح جميل كثير البركة، و الخط لا يخل بوزن الإطار، و حركات الشكل و هذه النمنمة لها إيقاع بهي في بياض اللوح - و بهذا التشكيل تكتمل الشرافة.
و يجيء العيد .. فيعلق الشيخ ألواح تلاميذه جميعاً على جدران الخلوة القرآنية الظليلة، فإا نظرت فأنت لا ترى الجدران و الألواح، و إنما ترى المصابيح الملونات الموقدات معلقات في ظل مديد.
كان لذلك المعرض الموسيقي الملون أثر في نفسي لا يزول، كان فرحي المتأمل و شغفي العذري بالحياة النقية الخيرة و الألوان و الأضواء الموحيات، و كان الشيخ يجود عمله و يتقنه، لأن الله يحب من يتقن عمله، و كان يعرف أثر عمله الطيب في نفس تلاميذه، كان صبوراً شكوراً، يخرج فيزرع مع تلاميذه إذا فاض النيل أو شرب الوادي.
يتبع
من مقدمة ديوان الشرافة و الهجرة للشاعر محمد المهدي المجذوب رحمه الله رحمة واسعة
رأيت أن أنقلها لكم فهي تحاكي صورة تعلق في خيال ساكني القرى و الريف ( صورة الخلوة و الشيخ مع تلاميذه الغبش الذين يرتلون القرآن في إيقاع جميل تطرب له الآذان) كنت فيما مضى استغرب صبرهم على الحر و البرد و كيف أنه بلهجون بشكر الله دونما تعب و يرسلون أصواتهم لنا في الليل و النهار كأنهم يدعوننا لنرى نور الله
الخلوة دار علم ديني ساهمت كثير منها في تعليم الكثيرين من أبناء السودان القرآن و ترتيله
رحم الله شيوخنا و أثابهم أجراً على ما قدموه في هذي الخلاوي